يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ } فيه أربع أقاويل
:
أحدها : هو أن يُطَاع فلا يُعْصى ، ويُشْكَر
فلا يكفر ويُذْكَر فلا يُنْسى ، وهو قول ابن مسعود ، والحسن ، وقتادة .
والثاني : هو اتقاء جميع المعاصي ، وهو
قول بعض المتصوفين .
والثالث : هو أن يعترفواْ بالحق في الأمن
والخوف .
والرابع : هو أن يُطَاع ، ولا يُتَّقى في
ترك طاعته أحدٌ سواه .
واختلفواْ في نسخها على قولين :
أحدهما : هي محكمة ، وهو قول ابن عباس ،
وطاووس .
والثاني : هي منسوخة بقوله تعالى : { فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم } [ التغابن : 16 ] وهو قول قتادة ، والربيع ، والسدي ، وابن
زيد .
{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعاً } فيه خمسة
تأويلات :
أحدها : الحبل : كتاب الله تعالى ، وهو
قول ابن مسعود ، وقتادة ، والسدي ، روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : « كِتَابُ اللهِ هُوَ حَبْلُ اللهِ المَمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إَلى الأرْضِ
» . والثاني : أنه دين الله وهو الإسلام ، وهذا قول
ابن زيد .
والثالث : أنه عهد الله ، وهو قول عطاء .
والرابع : هو الإخلاص لله والتوحيد ، وهو
قول أبي العالية .
والخامس : هو الجماعة ، وهو مروي عن ابن
مسعود .
وسُمَّي ذلك حبلاً لأن المُمْسِكَ به ينجو
مثل المتمسك بالحبل ينجو من بئر أو غيرها .
{ وَلاَ تَفَرَّقُواْ } فيه قولان :
أحدهما : عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم
الجماعة ، وهذا قول ابن مسعود ، وقتادة
.
والثاني : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ } وفيمن أريد بهذه الآية قولان :
أحدهما : أنهم مشركو العرب لِمَا كان بينهم
من الصوائل ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أنهم الأوس والخزرج لِمَا كان
بينهم من الحروب في الجاهلية حتى تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم
بالإسلام فتركت تلك الأحقاد ، وهذا قول ابن إسحاق .AL-MAWARDY.1/250
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } كرر الخطاب
بهذا العنوان تشريفاً لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا
الكتاب { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } أي حق تقواه ، روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفاً
ومرفوعاً هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويُشكر فلا يكفر ، وادعى كثير نسخ هذه
الآية وروي ذلك عن ابن مسعود . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت
اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً
على المسلمين { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] فنسخت الآية الأولى ، ومثله
عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس ، روى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال
: لم تنسخ ولكن { حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله
تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم ، ومن
قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من { حَقَّ تُقَاتِهِ } ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته
وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره ، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن { حَقّ } من
حق الشيء بمعنى وجب وثبت ، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا
الله اتقاءاً حقاً أي ثابتاً وواجباً على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد
فيكون قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] بياناً لقوله تعالى
: { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ
} .
وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ
باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي ، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى
: { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه
ما ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال
، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما
يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر { حَقَّ تُقَاتِهِ } على تقدير النسخ بما فسره هو
به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ
فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب ، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ
مبنياً على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداءاً كما لا يخفى
، وأصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاءاً كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفاً
، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه : تقاة ، ووقاة ، وإقاة .
{ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
} أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلاً ، وذكر بعض المحققين
أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال
الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه
على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولاً والإيمان ثانياً لما
أن لكل مقام مقالاً ، والاستثناء ( مفرغ ) من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال
إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية ، ولو قيل : إلا مسلمين
لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل { إِلا } بعد النقض والمقصود النهي عن الكون
على حال غير حال الإسلام عند الموت ، ويؤل إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت
إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي
عنه أصلاً لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه ، وفي التحبير للإمام السيوطي : ومن عجيب
ما اشتهر في تفسير { مُّسْلِمُونَ } قول العوام : أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل
ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا
عهدة عليه انتهى ، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه { مُّسْلِمُونَ } بالتشديد
ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم منقادون له؛ وفي هذه الآية تأكيد
للنهي عن إطاعة أهل الكتاب .ALLUSY.3/154-155
قال عكرمةُ : نزلت في الأوس والخزرج حين
اقتتلوا ، وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم . وفي «حق تقاته» ثلاثة أقوال . أحدها
: أن يُطاع الله فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، رواه ابن مسعود
عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو قول ابن مسعود ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل
. والثاني : أن يجاهد في الله حق الجهاد ، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم ، وأن يقوموا
له بالقسط ، ولو على أنفسهم ، وآبائهم ، وأبنائهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
. والثالث : أن معناه : اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه ، قاله الزجاج .
فصل
واختلف العلماء : هل هذا الكلام محكم أو
منسوخ؟ على قولين . أحدهما : أنه منسوخ ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة
، وابن زيد ، والسدي ، ومقاتل . قالوا : لما نزلت هذه الآية ، شقت على المسلمين ، فنسخها
قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] . والثاني : أنها محكمة
، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهو قول طاووس . قال شيخنا علي بن عبد الله
: والاختلاف في نسخها وإحكامها ، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها ، فالمعتقد نسخها
يرى أن «حق تقاته»الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه ، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به
، فتحصيله من الواحد ممتنع ، والمعتقد إحكامها يرى أن «حق تقاته» أداء ما يلزم العبد
على قدر طاقته ، فكان قوله تعالى : «ما استطعتم» مفسراً ل «حق تقاته» لا ناسخاً ولا
مخصصاً .
قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً
} قال الزجاج : اعتصموا : استمسكوا . فأما الحبل ، ففيه ستة أقول .
أحدها : أنه كتاب الله : القرآن : رواه
شقيق عن ابن مسعود وبه قال قتادة ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : أنه الجماعة ، رواه الشعبي عن
ابن مسعود .
والثالث : أنه دين الله ، قاله ابن عباس
، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة . وقال ابن زيد : هو الإسلام .
والرابع : عهد الله ، قاله مجاهد ، وعطاء
، وقتادة في رواية ، وأبو عبيد ، واحتج له الزجاج بقول الأعشى :
وإِذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة ... أخذت
من الأخرى إِليك حبالها
وأنشد ابن الأنباري :
فلو حبلاً تناول من سُليمى ... لمدَّ بحبلِها
حبلاً متينا
والخامس : أنه الإخلاص ، قاله أبوالعالية
، والسادس : أنه أمر الله وطاعته ، قاله مقاتل بن حيان . قال الزجاج : وقوله : «جميعاً»
منصوب على الحال ، أي : كونوا مجتمعين على الاعتصام به . وأصل «تفرَّقوا» تتفرَّقوا
، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد ، والمحذوفة هي الثانية ، لأن الأولى
دليلة على الاستقبال ، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال ، وهو مجزوم بالنهي
، والأصل : ولا تتفرقون ، فحذفت النون ، لتدل على الجزم .
قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم
} اختلفوا فيمن أُريد بهذا الكلام على قولين . أحدهما : أنهم مشركو العرب ، كان القوي
يستبيح الضعيف ، قاله الحسن ، وقتادة . والثاني : الأوس والخزرج ، كان بينهم حرب شديد
، قاله ابن إسحاق . والأعداء : جمع عدو . قال ابن فارس : وهو من عَدَا : إِذا ظَلم .
قوله تعالى : { فأصبحتم } أي : صرتم ، قال
الزجاج : وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه ، والعرب تقول : فلان يتوخى
مسارّ فلان ، أي : ما يسره . والشَّفا : الحرف . واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم
على الهلاك . وقربهم من العذاب ، كأنه قال : كنتم على حرف حفرةٍ من النَّار ، ليس بينكم
وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر . قال السدي : فأنقذكم منها محمد صلى الله عليه
وسلم .ZAADUL MASIR.1/389-390
JAKARTA 25/4/2013
Tidak ada komentar:
Posting Komentar